هذيان أصفر

وحيد في خضم بحر لجّي ، مركبه صغير جدا علي حاجيّاته ، العاصفة ترغم المركب الخشبي التالف علي الرقص كامرأة يشدّ خصرها لحن بديع !
ما الذي أتى به إلى هنا؟ لم يحمله الوقت علي أن يتساءل أو يفكر ..
البرق يرعد ، والرعد يضرب صوتا أشبه لأن يكون الصوت الذي يخرج عن سوط مربّي الثيران! هل هذا هذَيان ؟ 
من حوله ترقد بضعة أشياء تدفع المركب علي التنازل ، علي الخمول ، بدأ في تفريغ الحمولة خشية أن يغرق.
حقيبة ظهر جلدية ذات طابع ايطالي ، تحمل في جوفها أكثر ما تحمل ذكريات مشبعة برائحة أشجار الكروم في سفح ذلك الجبل ، في جحر تلك القرية البعيدة قليلا عن ميلانو ، وعطر صابون غسل الصحون وفوح الألعاب النارية المحترقة في كل عيد ميلاد ،ذكري الحقيبة أتت مباغتة أكثر من البحر المتراطم من حوله ، فرماها .
درع حديدي عجيب ، هو لا يتذكر من أين له به؟ هو لا يدري أي شيء الأن ، رماه علي ثقله ، على أي حال.
علي أرضية المركب يوجد غطاء بلاستيكي ، سحبه بكل قوته ، خطر في باله أن يتدثر به ثم اكتشف أنه ورغم العاصفة لا يشعر بالبرد ، بل بالحر الشديد ، قطرات العرق تنزّ من جبينه وتسقط لتتلاحم مع البحر الأصفر ، أصفر ، ما هذا؟ عقله لم يعد يستجيب.
السماء لا تزال تغني ، والمركب لا يزال يرقص ، وهو بدأ في الغرق ، رمى الكيس البلاستيكي ليأكله البحر كما يأكل الأسيد إصبعٌ مشاكس! انقبضت اصابعه وسرت في جسده رعشة الذي أصابته رصاصة.
انكشف الكيس بعد رميه عن ندبةفي بطن المركب التالف ، الندبة صارت فتحة بالغة ، والفتحة قررت أن تمارس حقها في الوجود ، بدأت في تسريب الماء للمركب.
اندفع هو لزاوية المركب بعيدا عن الفتحة ، وكأن ذلك سيبعده عن حتمية الغرق ، منذ متى وهو هنا؟ أول ما خطر في باله هو أنه هنا منذ خمس سنوات! هل هو هنا منذ خمس سنوات حقا؟
الماء الذي غمر المركب ليس بماء ، “هذه دماء” صاح في وجه السماء.
بدأ يهتز بشدة ، المركب يهتز بشدة ، الذكريات أيضا تهتز فيه بشدة ، حتى البرق يبدو أنه يهتز بشدة ، كل شيء كان يمارس الإهتزاز عليه ، وهو لا يملك سوى الصراخ!
شمّر عن يديه وأراد أن يتخلص من الدماء التي تعم مركبه ، طرأ سؤال عليه فجأة : لماذا لم يغرق حتى الأن؟ لكن الوقت لا يكفي للتساءل ، انحنى علي ركبتيه وعبّأ مقدار يديه دماءا تلك التي تحيط به حتى قرابة خصره وراح يصبها خارج مركبه ، مرة ، اثنان ، ثلاثة. ثم انعكس علي ضفافة الدماء التي يقذفها خارجا وجه غريب ، ثم وجه حنون يخالجه بعض العجز ، ثم وجه أسمر يحمل في ملامحه صداقة اغتالتها لحظة وفاء ، ثم وجه انثوي يضحك عاليا ، يضحك متشمتا. تسربت الدماء من يديه فزعا وقام ليقف ، فإن كانت النجاة من الغرق تعني الغرق في شيء أكثر رعبا فهو لا يفضل النجاة بعد الأن. وعندما وقف وجد نفسه يقف علي رجل واحدة ، أين ذهبت الأخري؟
فزع أكثر عمّ قلبه. والمركب هدأ من جنونه ثانية قبل أن تبدأ السماء في الإسوداد ، غربان كثيرة غطت المساحة الشاسعة في قلب السماء ، وراحت تقذف قنابل. القنابل في كل مكان. الصوت لم يعد يُقدر عليه ، وقلبه لم يعد ينتمي لأي مكان. ترك جسده المنهك ينغمس في ماء البحر الأصفر الباهت ، حتى صار في نقطة الضغط المحايدة بين القاع والسطح ، الرؤية مشوشة. وهويريد أن يصرخ لكن صُراخه يخرج في هيئة فقاعات تندثر في اللاشيء. ويديه تحاول التملص من جانبيه لكنه لا يستطيع ، وأصوات أحادية المصدر تداعب خصلات رأسه ، خصلات رأسه؟
صحى ..
أتى صوتها غريبا وشاحبا علي غير العادة. ويديها تمسكان بذراعيه وتثبتهما في جانبيه علي السرير ، بينما تحاول بإحداهما أن تسدل رأسه تجاه الوسادة ، ترتدي ذاك الزي الذي رأها فيه لمئات المرات ، تقول خلف لهاثِ : “إشبِيك سي نادر ، اهدا ، توّني نجيب الحُقنة ونجِيك”
ضغطت علي الزر الذي بجانب سريره ، فعرف أنها تنادي الطبيب بذلك ، تذكر أنه في مصحة تونسية منذ ثلاث شهور للعلاج النفسي. رجعت الممرضة وفي يدها حقنة أفرغتها في وريد ذراعه ، دقائق وهدأت تشنجاته ونوباته ، وتوقف فكه عن الإستفاق ، وقلبه عن الخفقان.
عندما وصل طبيبه كان قد هدأ تماما ، راح يسأله الطبيب بعد زفرتين أو ثلاث وكأنه يطبخ ذات الطبخة للمرة الألف : “الحمدولله ع السلامة لا باس ، هو نفسو الكابوس زي كل مرة ؟”
هزّ نادر رأسه إيجابا.
نظر الطبيب إلى رجله الوحيدة ، وقال بغير شفقة :
” مالا نقولك يا سي نادر ، أنا نعالج فيك قريب علي ثلاث شهور ما صارت فيهم فايدة”
سكت هنيهة كأنه يحاول أن ينظر لنادر في عينيه ، بل فيما أبعد من ذلك ثم استمر:
” راه تنجّمش تشفا من الجبهة حتى ترجع للجبهة!!”
أتى كلام الطبيب واضحا وصادقا علي غير عاداته المجاملة.
هزّ نادر رأسه إيجابا.
لكنه لم يكن يوافق طبيبه على تلك الجبهة التي جاهد فيها ضد نظام لا يزال ينمو في كل قلب عرفه في وطنه ، لا ، لن يعود لوطنه. فهو لا يملك واحدا.

بعد عشرة أيام كان نادر علي ظهر مركب يشق المتوسط ، في اتجاه تلك القرية الصغيرة بُعيد ميلانو قليلا ، علي ظهره حقيبته الجلدية القديمة ذات الطابع الإيطالي ، هذه المرة رمى ذكرياته بدل حقيبته ، وكان البحر أكثر من جائع!
.

.

-النهاية-

 

أية ش. أبوعقرب

20-7-2016

أضف تعليق