مارد القابينة

جمال مواطن ليبي صالح، يلبس الزبون أيام الجمعة وفي الأعياد، ويفضل أكل حساء الفاصولياء بالكرشة، ويقلب الشبشب كلما وجده مرميا علي قفاه. يحب بنت خالته القصيرة والفتاة الغامضة ذات الصوت الرقيق التي تزور بيت جارهم ميلاد عشيّة الخميس وأرملة صديقه السمراء وحتى تلك التي أخطأ يوما بطلب رقمها بدل رقم أمه والتي لم ير منها غير الظفر الزهري الذي يصاحب كوب الشاي في خلفية صورتها علي الفايبر، فجمال كأي مواطن ليبي صالح لديه طيف واسع من الأذواق. ثم أنه يعود المريض في اليوم الثالث من دخوله المستشفي بعلبتي عصير العنب، ويبخبخ أمام حوشهم عندما يشتد قيظ الصيف مرتديا سرواله القصير، وعندما يضرب زمور السيارة في زحمة الطريق يقول تلك الكلمة التي يقولها كل الليبيين عادة من هم في وضعه. يرقص علي النوبة بحرارة، ويلطخ زميله الذي تخرج للتو بأشنع أنواع الزيوت والبيض النيء النتن وريش الدجاج كحركة وفاء لاإرادية، وعندما يتكلم في السياسة تجتاحه تلك الرغبة الدفينة بقذف شتيمة. إذا وكما ترون، جمال مثالي جدا واكتسب أحقيته في الجنسية بكل جدارة.
وفي ظهيرة يوم من أيام أيلول الكئيب، حيث قرر الخريف أن لا يُرسل عجاجات رياحه المعهودة كان جمال يعرّج علي دكانة الحاج فتحي برأس الزنقة كي يشتري لأمه مواد تنظيف، فجمال كونه ابن مثالي وبار للغاية يوافق أن يذهب ويجيء بطوله وعرضه من أجل مواد التنظيف كغلمان أيام زمان ولكنه لا يوافق بالطبع علي أن يساعد أمه بالتنظيف، لأن أمه نفسها ربّته أن يكون رجلا. وبينما هو يصعد الكوز الترابي المنتفض أمام بيتهم بكذا متر، ويأخذ أول منعطف لليمين تعثّر في الرمال – التي يلعنها طيلة حياته لأنها دائما ما تترب ملابسه – وكاد يسقط بكلّه لولا أنه في أخر لحظة استند بيده علي قابينة الكهرباء المنتصبة علي يمينه، هذه القابينة التي لا يدري عنها أحد شيئا لأن كل جيران جمال – بما فيهم عائلة جمال – مواطنون صالحون جدا ويسرقون الخطوط الكهربيّة مباشرة من البالّو دون مرورها بساعاتهم الكرهبية. ثم خُيل إليه أنه سمع شيئا معدنيا يتحرك في داخلها، وقتها ولأنه غالبا ما يشعر بالملل الذي يقوده لعمل أشياء غبية فقد قرر جمال أن يفكّ باب القابينة وأن يكتشف مصدر الجلبة التي تأتي من الداخل بنفسه، وقال لنفسه: الباب صدء علي أية حال ومش حتضره بعض الحركة، وبعدين هذا رزق حكومة ربي يدومه.
وجد جمال عمودا حديديا صلبا وصلدا بجانب قاعدة القابينة مدفون نصفه في الرملة فسحبه واستعمله كمفتاح، لقد تعلم جمال منذ صغره أن كل الأشياء – معظمها علي الأقل – تعمل بالخبط. كان عندما يستهتر في دراسته تضربه الأبلة مفيدة خمسة خبطات بالعصا فيستأدب. يتشوش الراديو قليلا فتخبطه جدته ثلاث مرات فيصفى. تعود أخته المتزوجة لبيت أبوها شبه مطلقة فيخبطها الأب كفّين علي وجهها فتنزاح كل المشاكل كالسحر فترجع الأخت لبيت زوجها كأن شيئا لم يكن. وهكذا فعل جمال كما هو متوقع منه تماما، وبخبطة واحدة قوية كان القفل الرتّ قد تحطم، وباب القابينة الصدء قد انفتح بصرير. ولعجب جمال الدائم مما هو غير اعتيادي وغريب، لم يجد هناك لا مفاتيح ولا مولدات ولا موصلات ولا دوائر كهرباء، بل كل ما هنالك كان رفوف صغيرة وحسب. وعلي الرف من الأعلى للأسفل كان هناك أغرب منظر شاهده جمال في حياته، أغرب حتى من المرة التي شاهد فيها ريّس دفعته العسكرية يدندن مع أغنية لميادة الحناوي. كانت مجموعة تامة من قناني إعداد الشاي الخاصة بالعالة الليبية – كما تعرّف عليها جمال فورا – تصطف بانتظام، البردّان الاثنان أكبرهم وأصغرهم واللّقامة، ثم أكواب الشاي الزجاجية المعروفة، ثم علبتي الشاي والسكر، ثم المصفاة والإسفنجة والسفرة الستانلس ستيل، ثم مغسلة بسيطة في شكل حوض بلاستيكي صغير وقنينة لتر ماء وبمبلة غاز ضئيلة في أخر الزاوية من اليسار. وتبدو كلها كما لو أنها غُسلت ولُمعت وعُبئت للتو.
لم يفهم جمال شيئا مما رآه حينها. كان الوضع محرجا ومربكا بل وعبيطا إلى حد بعيد كما لو أن أحدهم خبأ كاميرا خفية في أحد الزوايا، فرفع جمال نظره باحثا عن أحد ما يجاريه استغرابه لكن الظهيرة غالبا ما تشهد خلوة مميتة في زناقي كوز جابر – هكذا تسمى منطقة سكن جمال – فالشيابين والشبان وأغلب الأهالي هناك عادة ما ينفقون القايلة أمام المكيفات وشاشات التلفاز. وهكذا وجد جمال نفسه وحيدا، ووقف مشدوها أمام القابينة المفتوحة ينظر لمحتوياتها ويفكر ما الذي سيفعله، إن كان عليه أن يفعل أي شيء علي الإطلاق.
ومر بعض الوقت وجمال لا يدري ما يفعل، ينظر فقط للأواني المحكمة الصنع بحيرة فقط، ويتسائل عميقا من صاحب المزحة السمجة الذي أتعب نفسه وخبأ بضاعة إعداد شاي العالة في قابينة كهرباء، لو يأتي للوالدة لأعدت له أحلى طويسة، هكذا قال معللا. حتى أنه نسي السبب الذي من أجله كسر قفل القابينة في الأساس، وفي تلك اللحظة بالضبط ارتجّ من جديد البرّاد الكبير الموضوع في أعلي اليمين في مكانه كأنه فوق نار، أو في داخله نار. فانتفض جمال مرعوبا للوراء خطوتين منتظرا أن تنفجر – كما زعم لحظتها أن في البراد قنبلة ما – القنبلة في وجهه، لكن البراد هنأ من جديد، وتوقف عن إصدار أي صوت. لم يكن من اليسير أن يمد جمال يده المرتعشة للبراد وأن يأخده ثم يفتحه لينظر ما في داخله، لكنه فعل ذلك علي أية حال، فلقد تذكر قبل أن يمد يده تلك المرة في التدريب العسكري بُعيد الثانوية بشهرين عندما اضطر تحت إمرة الريّس ميلاد أن يتقدم وحده للأمام وأن يبحث عن أي ألغام أو قنابل رمانات صغيرة من مخلفات حرب تشاد في منطقة صحراوية قرب الحدود غير أن – لحسن حظه – كل النتائج كانت سلبية. وأحس عندما كان يمد يده للبراد أنه سيجده سُخنا علي الأقل، بطريقة ما، لكن كل ما وجده جمال في البراد -الذي كان بالفعل باردا – عندما رفع البزّيم ونظر في الداخل مجرد قداحة نار صغيرة من تلك التي يحتفظ بيها والده في علبة السجائر. وفجأة انخض جسد جمال من الضحك العالي، ووجد نفسه يقول بصوت مسموع: ما ناقص غير الولاّعة! والله ما ناقص غير الولاعة! حتى أنه جثى علي ركبتيه ليأخد نفسا من موجة الضحك التي أصابته، فتمرغ بالتراب جميع ملبسه، وكل ما استطاع أن يفكر فيه حينها هو أن يرجع للبيت وينادي علي أحد من العائلة ليستتشيره في أمر هذه الحالة العجيبة الغريبة، وبالفعل نهض وأراد أن يرجع البرّاد لمكانه أولا، لكن بعض الفضول دغدغه قليلا فانتشل القداحة من قاع البرّاد ليحتفظ بها كدليل، وعندما ركزّ جمال علي الطرف الأخر من القداحة – علي الطرف الأول كانت صورة ناقة – كانت هناك كلمات منقوشة طوليا عليها تقول: عليهم ما نشدّ غلا، يا اللي يديروا شاهي بالعالة ..
وهكذا خطرت لجمال أسخف – أو ربما أدهى – فكرة في حياته. وقرر، دون أن يعلم تماما كيف واتته الجرأة تلك أن يعدّ شاي هنا وأمام القابينة وفي عزّ الظهيرة. لماذا وبأي منطق؟ لم يكن يدري حقا.
السفرة أولا ثم تُملأ بكل الحاجيات الأخرى عدا بمبلة الغاز والماء ومحافظ الشاي والسكر فهي توضع بجانب السفرة، وعلي هذا الشكل رتب جمال العالة وجلس مقرفصا فوق حجر مرمي أمام القابينة بعد أن تأكد أن لا أحدا من الجيران في ممر نظره. وبدأ في إعداد الشاي خطوة بخطوة كما تفعل والدته عند إعداده، في الحقيقة جمال حاول مرة المشاركة في إحدى أدوار تجهيز الشاي للرجال في وفاة عمه لكنه يتذكر جيدا أن شايه ذاك كان مُرا جدا وبلا كشكوشة وتحصل بسببه علي كمية كبيرة من شتائم ودعوات الشيابين الغاضبين، ولهذا كان حذرا جدا هذه المرة في صب الماء في البرّاد وإضافة السكر بكمية مناسبة وكذا الشاي الأحمر وتركه يغلي لفترة مناسبة علي النار، ثم وصل لخطوة تخليط الشاي بين البراد الصغير واللقامة لصنع الكشكوشة، تلك المادة الغامضة التي من أجلها  يُشرب هذا الشاي، فرفع البرادّ الصغير عاليا وصب الشاي في اللقامة، ثم فعل العكس فرفع الأخيرة وصب محتوياتها في البراد الصغير مجددا، وفي كل مرة كانت قطرات صغيرة من رذاذ الشراب تتناثر علي وجه جمال فيمسحها بكتفه بنشوة لم يكتشف سببها. وهكذا حتى المرة الثالثة، وفجأة، من البرّاد الكبير الذي يغلي علي النار والذي كان يحتوي علي القداحة بداخله باكرا خرج دخان كثيف غطّ مساحة النظر عند جمال وتركه يقحّ خوالجه بشدة بسبب إثارته للرملة من حوله.
ولعجبه – جمال لم يتعجب في حياته كثيرا في يوم واحد كما حدث يومها – كان هناك أمامه منتصبا بجانب القابينة رجلا يبدو وكأنه بأخر خمسيناته وبكامل طوله وعرضه، غير أن طوله أطول بقليل من متوسط طول الشيابين الذين يعرفهم جمال، وله أذنين طويلتين بشكل مقرف ولكن إذا غضيّنا البصر عن ذلك لم يكن في منظره أي شيء غريب أخر، يرتدي عباءة زرقاء معتمة وتبدو قديمة ولكن نظيفة، ويضع علي رأسه عمامة تنسدل بغير اكتراث علي صدره وكتفيه، ويحمل في يده جرِيدة خضراء مقلّمة، ويلبس وجهه ملامح المجاملة وابتسامة باهتة. لمّا هدأت زوبعة التراب التي صنعها خروج الرجل من البرّاد وبعد أن تأكد بالفعل من وجود الرجل أمامه دون خيالات شعر جمال بحاجة للصراخ، لابد أن هذا جنّي ويبي يتلبسني، هكذا فكّر فورا. لكن جمال لم يصرخ ولم يعمل إلا الواجب، فكــليبي صالح علي أفكاره أن تناقض أفعاله، ولذا انتصب هو الأخر ليسلم عليه – نعم والله يسلم عليه ولا فكرة لديه من يكون أو ما يكون – ويدعوه لكوب شاي يبل به ريقه، لكن الرجل هوى علي عضد جمال بالجريدة التي في يده فورا ودون مقدمات، يا اللي ما تستحي علي وجهك، هكذا قال الجني الأزرق،  وأضاف: تعزمني في حوشي؟ ولم يدر صاحبنا ما الذي يقول أو يفعل! مخافة أن تأتيه ضربة أخرى من الجريدة فالتزم الصمت واكتفى بملاحظة الجني دون كلام.
وهكذا مرت لحظة مزعجة بين الإثنين دون أن يقول أحدهما شيئا، ثم تنحنح الجني الأزرق وأزاح جمال من مكانه أمام عالة الشاهي وجلس بدله، وعندما لم يجلس جمال بدوره فكّ الجني عمامته الطويلة تاركا قبعة صوفية صغيرة لتغطي رأسه شبه الأصلع، وجعلها كمجلس لجمال وأشار إليه ليجلس بجانبه. فعل جمال ذاك بكل حيرة وخوف يملكهما. ولكنه لم يبق صامتا لفترة طويلة فسأل الجني: هو إنت صاحب العالة؟ وقتها كان الجني بالفعل يستأنف كشكشة الشاي بحب ظاهر عليه لذا هزّ رأسه إيجابا فقط.
أصلك طرابلسي؟ سأل جمال الجني، متعجبا من هيئته الغريبة عليه. مش طرابلسي لكن عشت في طرابلس لوقت أقدم منك. قال الجني الأزرق وهو يسكب السائل الساخن من علو حتى ظنّ جمال أنه ينزل من السماء نفسها.
تشوف في القابينة هذه؟ أنا نسكن هني من أيام الغارة الأمريكية! أضاف الجني بفخر.
حقا؟ أنا بالضبط إنجبت في  أيام الغارة! صاح جمال بفرح طفولي وكأنه لم يستمع لصدفة أكثر إعجازا من هذه في حياته.
أه. تمتم الجني معنقرا قبعته للأمام شاعرا بالإهانة من المقارنة الظالمة، وصحح فورا: أنا هنا في طرابلس من زمان، زمان من لما كنت أنت في علم الغيب! انتقلت بس لهالقابينة في وقت الغارة. وكما توقع الجني تماما، ارتسمت علي سيماء جمال إعجاب شديد، وأبدى استعدادا لأن يستمع للمزيد.
واستمر الجني في خضخضة الشاي وصبه من وعاء لأخر بمتعة، وقال: اللي شفته في طرابلس ما شافاش ليبي حيّ. فسأله جمال: هو إنت من أمتى بالضبط في طرابلس؟ فرد الجنيّ قائلا: أول مرة جيت فيها طرابلس كانت علي أخر أيام الإحتلال الأسباني، أيامها كانت بداية موضة الهجرة للشمال.
لم يفهم بالطبع جمال كيف تهاجر الجنون، أو لما. لذا انزلقت منه ضحكة بغير إرادته، فكتمها فورا وسأل الجني عن قصده. فردّ الجني الأزرق دون أن يترك البرّاد واللقامة من يده: إيحّ! مش بس البشر يهاجروا حتى الجنون خصوصا صبايين الشاهي يهاجروا لبلاد الأوروب، الشغل ماشي مزبوط عندهم. قبلها كنت نصب في الشاهي للطوارق – هكذا عرف جمال لما يلبس الجني ملابسه الزرقاء وعمامته – أصلا أنا أول من علمهم الشاهي. بابا كشكوش أكبر أكابرنا بعتني خصيصا لليبيا حوالي ألف سنة قبل الميلاد بش نعلمكم الشاهي بالكشكوشة اللي سميناها علي اسمه قدس الله شرّه قبل ما يتجهلّوا الطرابلسية ويسموها شاهي العالة. وهذاكا وقت وهذا وقت ومن يومها وأنا نتجول في ليبيا بين كل قرن وقرن نعلم في الناس كيف تطيّب الشاهي.
وفكر جمال في التأثير الذي أحدثه الليبيون علي الرجل، لقد سأله فقط علي الهجرة للشمال، لما كل التفاصيل التي لم يسأل عنها؟ فرجع وذكره بمقصده الأول، فتنحنح الجني متذكرا وأوضح حالا: إي نعم كنت نبي نهاجر للشمال لما سمعت إن أخوان القديس يوحنا جايين لليبيا خصوصا شواطيء طرابلس بدال الأسبانيين، كان هذا وقت وفاة بابا كشكوش، ياااه المسكين مات قبل ليتم ألفيته التاسعة، ولما مات قررت نتخلي عن مسؤولياتي العقيمة مع الليبيين ونهاجر للأوروب مع عودة الأسبان لأسبانيا.
تصدق، أضاف الجني ناظرا في الفراغ كأنه يتذكر شيء غابرا في الماضي، كان حلمي نهاجر لجزر الإنجليز المعروفة بحبهم للشاهي وزي ما تعرف مش بعيدة عن أسبانيا ونشتغل عندهم صبّاي شاهي عشية! ونعلمهم أسرار إعداد شاهي الكشكوشة. لكن، اعترض الجني قبل أن يترك الفرصة لجمال لمعارضته، هذا كله ما صارش لأن زي ما تشوف لعنتكم قاعدة لاصقة فيا! كنت ماشي لطرابلس في قفة تاجر طارقي مسافر ليها، ومنها كنت نبي نركب سفينة الجنود الأسبانيين، بالفعل ركبتها لكن السفينة غرقت في نص الطريق، وكل اللي وصل شاطيء طرابلس من جديد برّاد الشاهي هذا اللي كنت أنا فيه. قال الجني كل ذلك بسرعة وبزق علي الرملة بعد أن أضاف: الواحد ما يقدرش يهرب منها البلاد هاذي.
لم يشعر جمال بالإهانة في حياته كما شعر حينها من كلام الجني العجوز، فوقف منتصبا في الحال، ولكنه سرعان ما عاد وجلس مستكينا لأن الجني كان أسرع منه بجلدة من جريدته الخضراء التي أتته من حيث لا يحتسب علي بطة سيقانه تماما. لذا روّض جمال حنقه عن إهانة الجني مخافة ضربة أخرى – مرة أخرى يفعل الخبط فعلته في سير حياة جمال – وجلس بهدوء يحكّ مكان الجلدة بندم، يراقب الجني الذي لا يزال يعد الشاي بذات الشغف. وعندما شعر بالعطش قال مطالبا الجني عن أحقيّته الشرعية: يا أخي من بكري تكشكش وتعاود تكشكش وتعاود طيّب عطينا طويسة الدنيا قايلة وعطشّ.
وضع الجني لقّامته في السفرة، ورفع الجريدة في يده عاليا ومن حسن حظ جمال أنها لم تهوي عليه هذه المرة. بدل ذلك أشار بها الجني نحو القابينة وزمجر بصوت عالي: ثلاثين سنة وأنا مقعمز في البراد البارد زي جهنم! ثلاثين سنة نستنى في حد يخطم ويحررني منه بش نشرب طويسة شاهي مقومة وأنت توا مش قادر تصبر علي نص ساعة!! ولأن الجريدة لا زالت في يده فلم يعارضه جمال بتاتا، وأوجز له الجني أهم قواعد إعداد الشاي بالكشكوكشة فقال: من المعروف إن شاهي العالة يطيب كويس علي الهدرزة!
وهكذا راح جمال يدردش مع الجني في أمور المنطقة العامة، وراح يشرح له عن عائلة فلان وعائلة علّان، بل أخبره عن عمله ومشاكله مع حبيبته – بل حبيباته – وعن طموحات مستقبله، فلا تنسوا أن جمال مواطن ليبي صالح. واستدركه المنطق فجأة فسأل الجنيّ قابضا علي جبهته: هوا أنا ويّاك ما يشوفش فينا حد زعما؟
قال الجني دون اكتراث: هما هكي ديمة الليبيين، ديما يخافوا يديروا الحاجة في العلن. بعدين تشبح فينا نديروا في حاجة غلط؟ وقال أيضا معنقرا قبعته للأمام من جديد: هذا تراث والشعوب لا تنسجم إلا مع فنونها وتراثها.
أراد جمال أن يبدو متحضرا أمام الجنيّ لإعطاء صورة أفضل له عن ليبيا ولذلك لم يعارضه رأيه السياسي، ولكنه تذكر علي أية حال أن الجني لم يعلم أساسا بما حصل من تقلبات في خلال السنين الماضية وهو جالس في براده، إذن لا حرج عليه، حتى أنه حسده في سرّه، يا سعدوده، فكّر جمال.
وجهز الشاي، فأعد منه الجني كوبين، أعطى واحدهما لجمال واحتفظ بالأخر بجانبه. ورغم أن جمال لم يقل ذلك للجني أبدا كي لا يعطيه فرصة للتفاخر عليه، إلا أن جمال لم يذق شيئا في حياته أعذب ولا أحلى من ذاك الشاي، يا عليك كشكوشة مقوّمة، تمتم جمال تحت لسانه. يا عليك سُكر معدل، تمتم أيضا.
وكأن الجني عرف ما يدور في بال جمال، فوضع كوبه جانبا وانطلق يعدّ الشوط الثاني من الشاي، حاكيا لجمال عن مغامراته في طرابلس: تصدق؟ شاهيّا هذا رافق المرابطية والمجاهدين والجنود الطليان والتجار والناس العادية، لمّا خشوا الطليان طرابلس كنت نسهر مع مجاهدي الهاني تحت السواتر بش نديرللهم طويسة شاهي مركركة. كانوا الطليان يقصفوا من جهة وحني نكشكشوا في الجهة الثانية تحت سواتر الهندي والصبار. محسوبك لولا شاهيه ما كنّاش انتصرنا في معركة الهاني! ثم قال بتحسر: يا عليك أيام!
فرغ كوب جمال وهو يستمع لأحداث معركة الهاني من وجهة نظر الجني، الذي جعل أطرافا ثالثة ورابعة مشاركة فيها. وأكد له الجني بكل حرارة أن الملائكة وأوراح الشهداء الذين ماتوا للتو بالإضافة للأحياء منهم كلهم قد شربوا شايه اللذيذ قبل الإشتباك في المعركة. أدرك جمال بالطبع أن الجني انجرف بالتفاصيل ربما قليلا أكثر مما حدث بالفعل وأراد أن يذكره أن الملائكة لا تأكل ولا تشرب، لكنه ذكر نفسه أنه والجماعة أعداء من قديم الدهر ولا حاجة لإستثارة العداوات القديمة الآن.
حتى الأتراك كانوا أصحاب واجب، استمر الجني يحدث ضيفه، أكثر عدو تحسابوه استعمركم لكن أنتو اللي استعمرتوه. مشي وقت وجي وقت والأتراك نهزموا وطلعوا لكن قاعدين لتوا يطيبوا في الشاهي ببسخانين زينا! قال الجني ذلك بفخر بادٍ عليه، نافخا صدره. تي حتى الطليان، أيام كانوا يشدوا في توكات حراسة في البوابات كانوا الليبيين يعزموا فيهم علي طويسة بالكشكوشة بش يزلبحوهم ويخلوهم يخشوا بعد الوقت المسموح. شايف يا جمال السحر اللي في شاهي العالة؟
عندها جهز الكوب الثاني، فأخده جمال بوله شديد، متفهما ذبول بسالة الجنود الطليان أمام منظر هكذا كوب شاي سِخن. ما فيش فايدة منكم طبعا، قال الجني مكملا حديثه دون انقطاع، في الأول تديروا اللي ما يندارش بش تهزموا عدوكم، لكن بمجرد ما يمر شوية وقت تتعودوا عليه، بعدين يكبر التعود لحب، والحب لعبادة. هكي درتوا مع العرب وبعدين مع الأسبان وبعدين مع الأتراك وبعدين مع الطليان وحتى مع إدريسكم واللي جو بعده. ما فيش فايدة منكم!
لا تعليق استطاع أن يستحضره عقل جمال، لقد وجد مقالة الجني صحيحة للغاية، رغم أنه شعر بفجاجة من قبل محدثه أن يتكلم عن أبناء شعبه بقلة ذوق وتعميم كذاك، فبلع جرعة أخرى من الشراب ليهضم الغصة التي في حلقه. وقرر أن تغيير الحديث عن شيء أخر قد يفيد بعض الشيء في تحسين الجو، فقال متسائلا: إنت كيف طلعتلي هكي من البرّاد؟ وعلاش أنا بالذات؟
ما فيش سبب معين طبعا! كنت حاسس بالملل بس. أجابه الجني، ديما حاسبين نفسكم شعب الله المختار!
لم يترك جمال مجالا لإهانة أخرى فرّد علي الجني فورا: أنتم! أنتم! أنتم! بعد كل هالسنين أعتقد إنك ليبي زيني زيك! وعقد ذراعيه علامة استنكار وتجهم. فضحك الجنيّ عاليا حتى بان نابه الذهبي، وقال: حتى هذه تعلمتها منكم. في الحقيقة هذي أول حاجة نتعلمها منكم، إني نستثني نفسي وتعمّم علي الباقي!
فسكت جمال وظنّ أن الجني ربما يكون علي حق في بعض كلامه هنا أيضا. وابتلع أخر محتويات كوبه شافطا الكشكوشة المتبقية بلسانه، كان عليه أن يعترف بينه وبين نفسه أن هذه الكشكوشة ساحرة بالفعل. فشكر الجني باحترام مبالغ فيه، وأحب أن يسأله أخر شيء ثم يقوم ليذهب في حال سبيله، فقال: إنت تكتب علَم؟
نظر له الجني باستغراب، علم شنو، استفسر الجني. علم، علم يعني شعر شعبي وقافية وهكي. واستعان بالقداحة التي كانت في جيبه وأشار للكلام المكتوب في إحدى جنبيها، ثم أخدها ودسها في جيبه من جديد، فردّ الجني متفهما: أه تقصد شتاوة! لا .. هذا مرة كنت نلعب في شُكبّة مع مجموعة شيّب في درنة لما زرتها أيام أدريس وواحد منهم كتبهالي. إيييه أصحاب كرم الشراقة يا ريت قعدت عندهم! أضاف الجني.
وبهذا شعر جمال بالإكتفاء، إذ أنه كمواطن ليبي صالح فضولي جدا ولكن ليس كثيرا، فقط إلي الحد الذي يورطه في المشاكل دون أن يذهب بعيدا لحلها. فنهض ونفض ملبسه، شاكرا الجنيّ مرة أخرى، مستعذرا منه إذ عليه أن يشتري وركينة وصابون من دكانة الحاج فتحي قبل أن تنشغل عليه أمه. لكن جلدة ثالثة – هذه المرة استهدفت ظهره – أيبسته في مكانه. والله ما تمشي بلا دور ثالث يا راجل! هكذا اعترض الجنيّ. لم يشأ جمال أن يفكر إذا كان بإمكان جني أن يقسم بالله أو لا، عوضا عن ذلك رماه بنظرات استغراب واكتفى أن شكره مرة ثالثة – المواطن الليبي الصالح بالفعل يشكر كثيرا ولأي سبب – وبين له ضيق وقته وعدم إمكانية سرقة أي ثانية أخرى من نهاره الثمين – رغم أن جمال كان سيعود لينام فقط، ولكن مرة أخرى هكذا هي تصرفات المواطنين الصالحين – لذا بدأ يسير مبتعدا نحو المنعطف ليكمل طريقه، غير أن الجني صاح فيه ورجاه وأحلف عليه أيمان غليظة أن يعود ويستمع لما سيقول، فعاد جمال جابرا بخاطر هذا العجوز.
مزال دور الكاكوية! علل الجنيّ. لكن في العادة الكاكوية علي حساب الضيف يجيبها معاه! برا سلم ولدي جيب كاكوية من أمك خلي نديروا طويسة بالكاكوية السمحة. قال الجني كل ذلك معددا محاسن اقتراحه، مجملا منتوجه دون أن يحتاج لذلك، لأن في بال جمال كانت أكواب الشاي والكاكوية تسرق الخلفية الفكرية كلها، وكباقي الشهوات اللذيذة استطاعت تلك الفكرة أن تسيطر عليه بالكامل.
اتجه جمال لبيتهم، ناويا أن يستعير المحفظة كلها. دخل المطبخ علي أمه هائما، بعينين حالمتين وكتفين منسدلين، قال لها عن كل القصة من الصوت المشبوه داخل القابينة حتى أخر جلدة. وطلب منها محفظة الكاكوية، ووعدها أنه سيحتفظ لها بكوب من تحت يدين الجني الحاذق. لكن أمه تركت المطبخ دون أن تقول كلمة، وحينها كان علي جمال أن يبحث عنها بنفسه، دولابا دولابا بحث دون فائدة، إذ أن للوالدة طرق سرية في إخفاء أكثر الأشياء لذة من المطبخ. ولكن والده لم يتركه لمعانته طويلا.
سأله والده أن يعيد ما قالته عنه أمه للتو، وإن كان صحيحا أم لا. وكفتى مطيع أعاد جمال كل ما مر به يومها دون أن يترك تفصيلا واحدا، محتارا من الحيرة البادية علي وجوه أهله، والتي تحلوت بعد إنهائه للقصة لنظرة غضب علي وجه والده تحديدا. أخرتها حشيش يا قليل الترباية؟! بدأ الوالد. أخرتها تبعتك أمك للمحل تروح متدعدع؟ البطالة وفهمناها، قلة الخلوق وفهمناها، رقادك طول الوقت وفهمناه، لكن هذا لا! لحد هني وبس! كان علي جمال أن يذكر والده أنه لا يدخن أساسا، فكيف يدخن الحشيش بلا سجائر. ولكن الأب الغاضب أخدته شبهته بعيدا فانقض علي جمال يفتش جيوبه. هاه! قال الوالد منتصرا. ولاعة! علاش في جيبك ولاعة يا خايب؟
لم يفلح كل كلام جمال عن كون الأمر مجرد صدفة. هذي ولاعة الجني، والله بتع الجني! صاح مرارا ومرارا، ولكن دون أي فائدة، في النهاية كان عليه أن يحلف علي المصحف ولكن الأمر لم يجلب له سوى مزيد من الجلدات، لأن الوالد الذي شعر بفورة غضبه تصل حدها عندما حلف جمال علي المصحف الشريف فوق ترهات عن الجنون والقابينة التي تحتوي علي عالة الشاي اتجه في الحال نحو النخلة في أخر الحديقة واقتطف منها أقرب جريدة خضراء ليده.
ليلتها كان على جمال أن يقسم بحياته ألا يعود لما فعله أبدا حيث جعلته الجلدات – قلت لكم أن الخبط عامل مؤثر في حياة جمال – يعتقد هو الأخر أن الأمر كان عبارة عن هلاوس الحشيش. بينما كان علي الجني بعدما سمع أصوات صراخ تأتي من منزل جمال أن يعيد ترتيب أغراضه في القابينة، شاتما جمال بكل اللهجات الليبية لأنه سرق قداحته أولا، ولأنه لم يأتي بالكاوكية ثانيا، واضعا تعويذته حول القابينة لتخفي ما بداخلها بحيث لا يراها إلا المختارون، فقذ كذب الجني باكرا علي جمال عندما قال له أن اختياره له عشوائي، إذ أن الجني الأزرق لا يظهر إلا للمواطنين الصالحين المثاليين.
ثم إنه دخل البرّاد الكبير ليكن شيئا لم يكن.
 – النهاية –
أية ش. أبوعقرب
15/3/2017

6 أفكار على ”مارد القابينة

أضف تعليق