وجه العُملة الأخر .. (الكتابة عن الكتابة 2)

تبدو الكتابة من بعيد لغير قارضيها بالتحديد شيئا يدعو للترف والتأدب، نوع فاخر من السيجار، صفة وثيرة تلتصق بصاحبها فتحقق له العجائب كأنه في بلاد ألِس.
حسنا، ذلك شيء والحقيقة شيء أخر تماما. قد يعتقدون أنك تكتب من أجل المال، وقد يكون ذلك صحيحا طبعا. وقد يعتقدون أنك تكتب من أجل الشهرة، وذلك حقيقي أيضا. وقد يعتقدون أنك تكتب لأنك حصلت علي ساعات أطول وأكثر وفرة مما حصلوا عليه هم، وقد يكون في ذلك شيء من صواب. لكن الحقيقة كل الحقيقة هي ما لا تخطر علي قلب بشر من أولئك الذين فوتوا علي أنفسهم عذابا جحيميا كهذا.
أنت تكتب لأنك تحتاج لذلك. وكيفية هذا الإحتياج هي المعادلة الغير مفهومة هنا.
حسنا، قد يبدو ذلك نموذجي قليلا، وتقليدي بشكل لا يطاق. ولكنه الحقيقة وكل الحقيقة.

أنت تكتب لأن الحروب التي في الداخل قد أتت علي كل حي حتى كادت دواخلك تتهتك فتتراكم حول نفسها. تراها جزعا تتهاوى نحو نقطة صفر منغلقة علي ذاتها في سرعة جنونية كسرعة الضوء بل أبرق. تحاول طلب المساعدة لكن الجروح أدمى من أن تطيب. وطريقتك الوحيدة للصراخ هي أن تكتب. أنت تحتاج أن تكتب حتى تشفى.

أنت تكتب لأن اللسان قاصر علي وصف الجمال، تِنك العينان لا شيء يستفيض منهما إذ تبنتهما لغة الصوت. الصوت طفل لم يبلغ بعد، وأنت تريد طريقة لبقة أكثر بكثير للحديث عن الحب. وستفكر، وستفكر، وفي أثناء ذلك تنساب خيوط الشعر من أصابعك كعنكبوث حدقة! أنت تحتاج أن تكتب حتى تتكلم.

أنت تكتب لأنك وحيدجدا. ولا أحد سيفهم ما معنى أن تكون وحيدا. سيتحجج البعض أنهم يفهمونك لأنهم قضوا عطلاتهم الصيفية بعيدا عن أصدقائم ورفقائهم طيلة الوقت. وستنفخ أشداقك وتكظم غيض صبرك وتومئ بالعرفان. بينما أنا أعرف وأنت تعرف أن الوحدة القاسية، القارسة كأصابع الأموات هي تلك الأصيلة فيك للدرجة التي تجالسك ومعك ثلاثون من الخلّان. وكل ما ستحتاجه لما تتكدس أكوام من الوحدة علي صدرك هو قلم ومجال للكتابة والتدوين، لا بشر. في ورقة، وراء علبة منديل، نوتة في الجهاز، أو حتى خربشة علي باطن اليد. ما المهم؟ أنت تحتاج أن تكتب حتى تشعر بالرِفقة.

أنت تكتب لأنك تخاف. أتذكر اليوم الذي هربت فيه من نفسك وامتد لشهور عديدة؟ أتذكر الرهبة والفزع من أنك ستفقد رغبتك في أن تكتب مجددا. وربما حدثت نفسك عن هاجس قديم يقارنك كلما غابت الكتابة عنك، فيوسوس لك أنك لن تصير بعد اليوم أنت. أفهم جيدا أنك ستخاف أن تفقد نفسك، وللأبد! ويجب أن تكون علي حق! أعني كيف للأدراك أن يتسلل لثنايا وجودك إن لم يمر أولا عبر الحروف؟ كيف تستطيع الحفاظ علي شكل هذه النفس الصلصالية الملامح إن لم تحرقها يوميا في فرن الإستعارات؟ كيف سيتعلم قلبك فهم ذاته إن ترك يوما مهنة خلق العبارة؟ أنت تحتاج أن تكتب حتى تبقى.

أنت تكتب لأنه عليك ذلك. ليس هناك من خيارات كثيرة أو متنوعة يقدمها لك مزاجك المتهاوي. شهوتك المميتة لتدوين كل فكرة، وإنجاب عشيرة من الكلمات مفهومة تماما. قدرتك علي تخطي وجود من الأشخاص بأكمله بالقرب منك والإيقاع علي ورقة لتشويه برائتها بشخصية مسجاة ما من لا شيء هو شيء طبيعي تماما بالنسبة لك، حتي وإن لم تتفق والدتك علي سلوكك الشاذ هذا امام عائلتك أو ضيوفك. لا مبالاتك بالوقت الثمين الضائع في الجلوس ساعات طويلة أمام مكتب بارد وفقير، وتمضية السهرات في حرق أعصابك من أجل إتمام عملية تخيلية بالشكل الدراماتيكي المطلوب حسب قواعد غير مكتوبة أصلا يعتبر خارقا للباقة الإنسانية بالنسبة للجميع، لكن ليس بالنسبة لك. لأنك عليك ذلك. هذا أمر بديهي جدا، وضروري لحد هوسي مثير، ومدفوع بشكل غير شرطي البتة بذكريات موحلة في ماضيها. ومجموعة من أولئك الذين لا يفهمون مهما كانوا قرابا أو بعادا لا تشكل فارقا يذكر في نهاية الأمر. أنت تحتاج أن تكتب لأنه لا خيار أخر هناك. والفسحة أضيق من أن تُرتاد!

حسنا، ربما سيكون من الجميل أن تحضى بحياة طبيعية ككل الناس. أن تكبر وتتزوج وتنجب أطفالا وأحفاذا وتحدثهم عن ذكرياتك الجميلة عن عملك وسفرك وغرامك. سيكون من الجميل العيش ببساطة كتلك. حقا. لكنك في النهاية ستموت، والبسطاء أيضا. لكن ستبقى. معلقا ربما في ورقة كالمشنوق سهوا. لكنك ستبقى بينما سيمرون هم. وستتالى أجيالا لن تعرف ماذا تعني الكتابة بالنسبة لك. كيف شكّلتك وكيف شكّلتها. من بدأ أولا منكما في الغزل، ومن بدأ أولا في المبارزة؟ ولكنهم سيعرفونك لأنك ستبقى. وهذه قد تكون الخدمة الوحيدة التي تعود لك من الكتابة. متأخرة دائما. لكنها تعود، تعود حاملة معها اسمك وإلى الأبد.
….

أضف تعليق