من أجل بُعد أخر .. (الكتابة عن الكتابة 1)

الكتابة ليست ترف. الكتابة لم تكن في يوم من الأيام كماليات عند أصحاب الوقت الزائد. الكتابة فعل تجريد، فعل خلق، فعل شِفاء، فعل تنظيم. وكله يحتاج لوقت وجهد عظيمين! الكتابة فن، والفن نوع من أنواح السحر. وحياة بلا سحر بالكاد يمكن أن تُعاش. لذلك الكتابة ليست ترف، ليست خيار، ليست منفضة سجائر تستعمل ثم توضب في الخزانة. هي واجب نفسي أولا تجاه ذات صاحب الفعل، وناتج طبيعي عند الشعوب الإنسانية. ناتج يعتبر غيرمقصود تماما إذا ما أخدنا نية الكاتب في الأساس. شخص فوضوي الفكر، ومعلول النفس. يهدف أساسا لتقويم حالته هو، وهو فقط بتجريد المشكلة، خلق لباس أخر لها، علاجها أو تنظيمها بكل بساطة.

ما يسمى بالإنتاج الأدبي للشعوب لا يعدو كونه حاصل إحصائي عن كل المعاناة الفردية لأهله، لقلة هي في طبيعتها الأولية حسّاسة، ومأخودة بدواخلها أبدا. وإذا تأمل أحدنا وضع البلاد العربية حاليا فأنه ليحتار من ضعف الإنتاج الأدبي الإنساني في الكتابة، ولا يمكنه إلا أن يفكر بأن هذه الشعوب أما أنها لا تعاني بما فيه الكفاية -وهو ما هو مستبعد في حالتنا- أو أن الداخل الإنساني في كل فرد من أغلب أفراد أمتنا الحسّاسون غير ناضج، وقاصر عن إحتواء هذه المأساة والمعاناة الإنسانية المحيطة لها. أي أن أدوات تجريده وخلقه في الداخل لا تتناسب طرديا مع أدوات التكثيف والتدمير في الخارج المحيط. وإذا كان من طبيعة الطبيعة أن تكون في مجملها محطِمة ومدمرة ومستفزة، فإن من طبيعة الإنسان الكاتب أيضا أن يكون متحفزا دوما وأبدا لإستفزازها ذاك، وقادر علي التوازي مع ضغوطاتها عليه بإزاحة هذه الضغوطات لعمل يحتمل عنه الكثير الكثير. عنه وعن المجتمع في حالة ترقيّ المادة لأفراد أخرين. ومع هذا، ومع كل التثبيطات الموجودة علي ساحة الأدب المكتوب الآن، الواحد لا يمكنه أن ينكر الأقلام التي فعلت ما في وسعها لتقويم هذا الإعوجاج الرهيب الحاصل في الطبيعة والمجتمع. ولكن يتمنى أن يصير الإنسان هنا أقرب ما يكون لداخله حتى يسعه سماعه بشكل أفضل، وبالتالي حتى يستلهم العلاج -وكما قلنا سابقا- لنفسه أولا، ثم للبقية الإنسانية.

الكاتب اسم فاعل فضفاض، ومثير لريبة اللغة، والتحديد. لكن الكاتب الإنساني وصف أكثر دقة، وأوفر نغمة، وباعثا علي الشعور بالإنتماء العام لشيء أكبر بكثير من ورقة وقلم. لا توجد صعوبة في ارتياد الكتابة الإنسانية علي كل حال، الصعوبة في احتمال طريق العلاج القاسي والمؤلم في سبيل كشف حقيقة -مهما كانت جميلة أو متوحشة- لهذا العالم العطش جدا للصواب. أن تمر هذه الحقيقة بكل مشاكلها وحلولها علي عقل وقلب وجسد هذا الفاعل. الذي هو في النهاية ليس إلا إنسان. لكن التضحية عنده ليست أقل من تضحيات الشهداء والقديسين. والفعل عنده -أي الكتابة- ليس أكثر من وحي يستقيه من خياله، الذي هو الأخر وحي المحيط.

دستويفسكي مثلا كان كاتبا إنسانا. وبعينه رأى العذاب والمعاناة الروسيّة، وبيده حوّلها لأعمال لم تعالج وتخلد المجتمع الروسي فحسب، بل ربما قبل خروجها للنور عالجت دوستوفسكي نفسه، وخلدته فيما بعد. وفي طريق الألم دائما خلود من نوع ما في نهاية الأمر.

______

أية ش. أبوعقرب

أضف تعليق