وفي البداية؛ كان الأرق .. في عشق الأرق (2)

 

 

الأرق. الأرق عوده رقيق، وله ظل طويل على الحائط المقابل. لو أخدت قضمة منه لربما تذوقت طعمة القهوة، أو السجائر. ولحضنه بنّة التوتر المصاحب للمهام العالقة. في العادة يأخذ شكل التراكين والزوايا المظلمة، التي حتى إن أشرقت فيها الشمس، أو كلمتها العصافير في السابعة صباحا لما استطاعت أن تزحزحه منها ولو قليلا ..

يبقى هناك في تلك المساحات المعدمة محدقا لي كل الليل. كل الليل؛ عيناه واسعتين، وغارقتين تشبه أشسع محيط. هو يحبني، أعلم ذلك. وكلما تهذلت لي عينًا مد مخلبا دقيقا، مثل مخالب حاصد الأرواح ونفشني عودة من أحلامي السخيفة، والهاوية مثل خيط دخان. في الحقيقة لا يمكنني لومه، إذ أني لو بدأت بالحديث عنه لربما انتهى بي الأمر بالحديث عن نفسي أيضا ..
في البداية، وكل صباح عندما أفرش أسناني يكون هناك بجانبي، في المرآة نبدو متشابهين؛ عودين رقيقين، ظلين طويلين، هيئة منكفئة ومتكلفة، وعينين غائرتين في كل رأس، واضح من عمق كليهما أنهما شاهدتا الكثير، حتى أنهما أصبحتا ضحلتان حد عدم الإكتراث.

أنظر له جانبا في المرآة، وأنا ما زلت أفرش أسناني بكل ملل العالم:

– أرى أنك ساكت على غير العادة ..

– بل فقط انتقلنا لمرحلة مختلفة أخرى!

أبزق المعجون الأخرق. أكره بنّة النعناع على صباحات ربنا. ، منعشة ومزعجة كالأطفال. يكرهها أيضا. ولربما أكرهها فقط لأنه يكرهها. تنقلع معدتي من مكانها، وأكاد أقيء. وكل صباح أسبه لأنه السبب في هذا. أكرهه وأكره شبهي له وأكره المعاجين بطعم النعناع وأكره المرآة التي نتشاركها وأكره الصباح ..

– ماذا تعني أننا انتقلنا لمرحلة أخرى؟ يا أتعس مخلوقات الله .. أقول بائسة. وأتجه حيث دولاب الملابس.

– تعرفين .. لم أعد بحاجة أن أساهرك غصبا لتسايريني، بات الأمر يعجبك .. بات الأمر إعتيادي ..

أسبه في داخلي. أسب كثيرا من الأشياء الحقيقية جدا في الصباح. أسبه في العلن لأنه الآن يضحك عليّ، فتتململ أختي في سريرها، فأنتبه. المجنون، أنسى أحيانا أني وحدي أسمعه، وأراه.

يشعر بتأنيب الضمير فيساعدني لإختيار ملابسي. يختار لي أفجعها، وأبعدها تناسقا، وأكثرها صخبا، وغرابة، فأهز رأسي نفيا. أعرف أني سأندم على هذا بمجرد أن أخرج تحت الشمس.

لكنه هناك معي في المرآة. نعم يحب الزوايا، وعدا عن ذلك والمرايا لا تجده يتجول كثيرا في الأنحاء. يضع الملابس قطعة، قطعة على جسده النحيل، ويهمس لي مطمئنا؛ إن بدا هذا عليّ مناسبا فعليك أنسب، فأرضخ منساقة بمزاجية يعرف كيف يلعب معها.

أرافقه حتى مرآة المطلع، ثم أودعه حتى المرآة القادمة. بكتفيه الهزيلتين وأنفه الممشوق يظهر لي حزينا لأنه، مثلي، لا يحب الوداعات. بل ولا الشمس كذلك. لكني أحسده، وأشتاقه منذ اللحظة. لأنه سيختفي تحت ملابسي، وجفنيّ المتورمتين بينما علي أن أواجه العالم لوحدي ليوم أخر. أكرهه لذلك أيضا. أكرهه لأنه يتركني كلما احتجته أكثر. كلما أردته أكثر.

أخرج في الثامنة للعالم كما يولد كل دورة.

يا إله الكون كيف يحتمل الإنسان الهش، السيزيفيّ عبء تكاليف هذه الروتينية المقيتة؟ أخرج دون لقمة في جوفي لأنه يقبع هنالك، وهو لا يحب أن يزاحمه أحد. هو غيور جدا، ومتطلب جدا وككل الأحبة يريدك أن تقرأ له وحده، وتكتب له وحده، وتحبه وحده. ولأني روح حرة فلقد عانيت سنينا حتى قبلت بهذه العلاقة. الفتاة عليها أن تكون في علاقة ما، أليس كذلك؟ وها أنذا ..

طول الطريق يخفت صوته بجانب صوت أبي المتذمر من العمل، أو البيت، أو من نفسه. أو هو يخفت ببساطة لأن السماعتين اللتين أضعهما في أذنيّ الآن أعلى من صوته البعيد، الخافت مثل تغزلات الرجال الرومانسيين، أو الوحيدين. ولأنه يختفي أخيرا فإني أضع رأسي على حقيبتي ساندة إياها وأحلامي على  منصة الكرسي، ثم أنعم بأهدأ اللحظات قبل أن أبدأ عراكا أخرا، ككل يوم ..

لا شيء يبقيني على الصحو إلا التفكير في كأس القهوة التي سأتشربها أول شيء عند وصولي الكلية أو العمل .. إذ ذاك يصبح الصباح مقبولا بعض الشيء. حتى وإن عنى ذلك أني سأشم الأرق إذ ذاك فيني أكثر من ذي قبل.

**

في الليل قد أقرأ له الجحيم، أو مغامرات شيرلوك، أو أسرار الصوفيين. أو قد نكتفي نحن الإثنان برواية خفيفة تتكلم عن الحب. في الليل سنسهر سويا نقضم أظافرنا، وأمالنا، ونُراكم أفكارا كثيرة لنبني أعظم برج ورقي في العالم، ونتحدى الصباح الكريه أن يهده إذا ما أتى نافشا ريشه كالديوك. قد نأكل أو نرقص أو نحدق فقط في السقف. نعم؛ على الأغلب سنحدق في السقف وحده لأن هذا أحب الأعمال لقلبه. سنحدق في السقف ونصنع قصصا لا تنتهي. قد نكمل قصة السبسي معا إذا ما عرفنا لما قتله صديقه، أو قد نترنح معا في شبقٍ لا نهائي عن ماهية الأعمى صاحب حمامة سيدي البصير الحمراء. ياه، حمامة سيدي البصير هذه قد تكون مفتاح قصتنا أنا وهو. منذها، أي منذ سنتين، ونحن ننام كل ليلة -هذا إذا تركنا ننام- مختلفين عن ما يجول في دماغه. يقول لي لابد أنه مكلوم، أقول له أخشى أنك تشبّه كل مخلوقات العالم بك. أقول له ربما هو هارب من ماضي دموي ولهذا يرسمها حمراء، قانية دائما. يضحك عليّ. يُسخفني ويسفه رأيي لأنني أجد وراء كل فعل ما دافع خفيّ. يقول يا ليت الحياة بالسهولة هذه، ثم يأخذ زاوية أخرى، ويسرد قصة جديدة.

قد أكسر الملل هذه الليل ونتصارح بشأن أخر منحنى أخذته هذه العلاقة. يقول أننا دخلنا مرحلة مختلفة؟ منذ سبع سنين والحال حاله، والطبع طبعه، والليل ليله ولا أدري كيف يصير الوضع مختلفا. أو ربما هو مختلف الآن، لأنه كما قال لي، لم يعد جديدا عليّ.

أو قد أتركه يهدهدني هذه الليلة. ماذا لو سرفت من أجله نومة أخرى؟ ساعة؟ ساعتين؟ ثلاث؟ الليل بطوله حتى الصباح؟ يقولون من أجل علاقات صحية، وطويلة المدى عليك أن تُضحي بالكثير، أليس كذلك؟ ربما كل ما عليّ فعله هو الإستسلام، وترك الأمور أخد منحنيات مختلفة، متشابهة ليلة بعد ليلة، فلم أعد حتى أتعاطي البنادول نايت الرخيص.  وربما في ليلة ما سيحبني بالشكل الكافي الذي سينام فيه معي، من أجلي، بعد سهرٍ طويل كالدهور.

أليس هذا ما تريده كل فتاة؟ أن تكون في علاقة ما؟ أن تُغير حبيبها؟ أن تلتقي كل ليلة به؟ وأن تنام معه في سرير واحد، جسدا بجسد، حتى تقوم القيامة؟

قد لا أريد كل هذا، قد لا أريده أن ينام، أحبه كما هو، ممشوق الأنف وله ظلال قاتمة، ولم ينم قط. أريد فقط أن أنام دون أن أكرهه. دون أسبه. دون أن نتشاجر كل ليلة من الخائن فينا إذا نمت أنا أو غضب هو.

كل ما أريده أن أنام ليلة واحدة، ثم أصحو دون أن أفكر في إعادة الحلقة من جديد.

 

– النهاية –

3/6/2018

آية بوعقرب.

 

 

 

8 أفكار على ”وفي البداية؛ كان الأرق .. في عشق الأرق (2)

  1. من منظور أناني بحت، سأتمنى أن تدوم هذه العلاقة، فهي ممتعة للقراءة هههههه، ولكن من منظور الصداقة والحب الذي أكنه لشخصك وقلمك، أتمنى لكما نهاية أبدية، أتمنى أن تبوء علاقتكما بالفشل، جميلة القصة (إن كانت قصة)

    Liked by 1 person

    1. نقرا في التعليق بصوت أفلام ديزني لا أدري لماذا هههههههه
      أشعر بحلاوة الأمنيتين الاثنين والله ههههه تسلميلي كوثرة 🌹 أنا سعيدة (مرة أخرى) جدا برأيك في نصوصي.

      Liked by 1 person

  2. كل قصة اجمل من الثانية استمتعت بالقصة جدا .
    و أتمنى ان تبوء علاقتكما بالفشل قريبا ، و أن ترتبطي بالنوم الطبيعي .إنه أجمل بكثير من الأرق صدقيني ❤

    Liked by 1 person

  3. جميلَة جداً و تقوم بتدوير شخص الأرقْ فِي كُلٍ منا، بعد ما كتبته يَا آية هههههههههه سأتخيله على أنه حبيب عندما يأتينِي مداهماً و ملتصقاً بليالِي الغارقة في اليقظة.
    قلمك كالعادة ساحر

    Liked by 1 person

أضف تعليق