الثلاجة رقم (3)

في الليل تكتسي المشرحة ظِلال الوحدة والوجوم. رائحة المورفالين نفّاذة وعالقة في كل شيء؛ الطاولات الحديدية الجامدة كأفريز والستائر والأبواب والأروقة ووجوه العاملون هنا؛ الإداريون والأطباء والمشرّحون وزملائي عمّال النظافة أيضا. يأخد الحاج إسماعيل ومعه عبد المجيد نوبة الصباح في هذا الجناح من المشرحة، وأخد أنا نوبة المساء. في منتصف الليل وبعد أن أقوم بتنظيف طاولات التشريح والأرضيات وكافة الأروقة والمغاسل بالمطهرات والمعقمات منتهية الصلاحية التي يفوتها تغيير رائحة الدم الكريه والموت المتأخر من الأجواء أمرّ علي ثلاجات الموتى الضخمة وأقرأ أسماء ضيوفنا الراقدين عندنا مؤقتا بصوت كالهسيس، لا تسيئوا فهمي؛ أفعل ذلك في العادة من أجل التسلية فقط، كسرا لروتين لم أعد أتذكر منذ متى وأنا أمارسه. فأنتم لا تعرفون إلى كم قد يتمدد الوقت هنا في المشرحة ليلا، جاعلا من التجربة برمتها كابوس قوطي مزعج.

دخلت هذه الليلة لإحدى الصالات الثلاث الكبرى، بها حوالي اثني عشر ثلاجة مصفوفة فوق وبجانب بعضها البعض، كل واحدة منها في شكل صندوق غائر إلى الداخل لا يبدو منه غير رأسه الحديدي والذي يستخدم كباب فردي للثلاجة غير أنه يشبه باب لفرن جحيمي عوضا عن ذلك. وعلى كل صندوق من الخارج مكان لوضع الملصق الذي يحمل اسم الجثة التي بالداخل. لقد تفاجئت هذه الليلة، لم يكن هناك سوى ثلاثة ضيوف.

ثلاثة أموات – ولو كانوا في صالة واحدة فقط – هو عدد هامشي لا نقابله عادة هنا في المشرحة، فأزمة الأوضاع مؤخرا جعلت من المشرحة مكانا زاخرا بالموت المجمّد. حملقت بالعناون الثلاثة والتي وزّعت علي الأثني عشرة صنوقا بشكل عشوائي تماما، حملقت فيها وقرأت الأسماء بصوت هامس : حسن محمد الجميّل، يامن فتحي العبد الله، وهناك في ثلاجة رقم ثلاثة من أعلى كُتب الأسم الأول لأحدهم وحيدا، مجرودا، مختزلا. وشعرت بخيبة الأمل، لم يكن هذا الزائر جديدا أصلا! وخلال الأسبوع الماضي بأكمله كنت أراه لا يزال راقدا في مكانه دون تغيير. سمعت السيد عاشور مدير الجناح يقول للطبيب الجديد أن هذا الميّت لا أهل له، أو أنهم لا يعلمون بوفاته على أية حال. وفكرت في مدى بشاعة هذا الأمر، أن ترقد في ثلاجة جامدة كدجاج مستورد لأسبوع كامل دون أن يأتي أحد ليستلمك أو ليوّقع شهادة وفاتك. إن جمود الثلاجة أمر مقدور عليه ولكن .. جمود الوحدة ليس أقل رُعبا ووحشية.

وقررت أن أتسلى بالنظر في الجثث، ليس لوقت طويل، أردت فقط أن أطلّ عليهم طلة صغيرة وألعب لعبة خمن كيف مُت. عادة نلعبها جماعيا، ولكن منذ أن عينوني لوحدي بعد أن أنتقلت لهذا الجناح من سنة وأنا ألعبها بمفردي. اطلّعت على الثلاجة السفلية، التي كتب عليها حسن محمد الجميّل، فتحت الباب الصغير بهدوء وسحبت السرير القابل للإنزلاق للخارج نصف سحبة. بدى الرجل وقورا جدا ومهيبا للدرجة التي بدى الشق العميق كحفرة أسفل قذاله لا شيء على الإطلاق. ربما هو حادث شنيع نتج عنه نزيف داخلي فبطنه المنتفخة كقربة غير طبيعية، لم أقطع الشك من اليقين فأنا مجرد عامل نظافة لا أفقه كثيرا في هذه الأشياء، لكن من الواضح أن وجوده في المشرحة أصلا مبعثه شكوك في طريقة موته، أو السبب وراءه. تركته واتجهت للثلاجة المكتوب عليها يامن فتحي العبد الله، قمت باللازم وسحبت الثلاجة للخارج، ولم يكن الأمر صعبا، فالولد كان صغيرا وضعيفا حتى أن عظم صدره قد برز للخارج كصدر طائر مذبوح. لم أتبين أي شقوق أو رتوق، أو حتى خياطات. لكن مفاصل مرفقيه مملوءة بالثقوب والكدمات البنفسجية، وفكرت في أن الولد ربما تعرض للتسمم أو شيء من هذا القبيل، وإلا لما كل هذه التحاليل؟ أيا يكن، بحلقت فيه لدقيقة متخيلا إحساس أبيه المفجوع، وأرجعته لمكانه بهدوء.

ثم قررت أن أطلع على الزائر القديم أيضا، فتحت بابه، وسحبته للخارج. عندما نظرت لوجهه المتعب كأنه لا يزال حي تماما، وكذا عندما لمست جبينه الذي كنت أظنه باردا ككل شيء أخر هنا، ثم اكتشفت أنه دافيء لدرجة مريبة، عندها انتابتني رعشة خفية في أوصالي، وللمرة الأولى منذ عملي هنا شعرت بقليل من الخوف.

كنت أنظر إليه وشيء غريب يتحرك داخلي. أنظر للعينين الساكنتين، والحاجبين الكثّين الذي ينقص يسارهما ذيله؛ كأنه مكشوط، والعضلات المشدودة حول فمٍ مغلق كزنزانة. ومن حاجبه الأيسر حتى أذنه اليسرى مرورا خلف رقبته وصعودا مجددا نحو قذاله يرقد شق قديم كتلك الشقوق التي يكتسبها المرء من المعارك، وبدى لي كخندق مريب مكانه يشي بتاريخ مليء بالأساطير. وتذكرت أيامي في السجن. كان زمنا غابرا في الوراء حتى إن تذكره الآن لا يجدي ولا ينفع، وخطرت على بالي صور التعذيب الشنيعة التي كانت تمارسها رجالات المخافر على أجسادنا دون رحمة. بل إن مصائب دخولي للسجن تعدّت الأعباء الجسدية وامتدت لمستقبلي، أو بالأحرى سرقت  المستقبل كله، فمع السجن السياسي أعمال النظافة تبدو أكثر من حظ سعيد غادق عليك من الحكومة، ولا طمع. مررت بأصابعي حول الشقّ الملتئم بالكامل مرة واثنتين وقررت فجأة أن أقوم بنفسي بالإهتمام بهذا الرجل. إن لم تكن له عائلة تأتي فتهتم به كأخر لقاء أبدي، فأخٌ له من السجن تربطه به ذكريات الجسد المعذب سيقوم مكانها. ربما يكون هذا المعروف الغامض ثورة رأي سريّة في وجه الحكومة كالأيام التي خلت. 

وهكذا أخرجته من الثلاجة ووضعته على إحدى طاولات التغسيل. وعندما قابلني الجرح المخيّط كقصة يروح ويغدو خلال عظمة قِصّه كلها استغربت كيف أني لم أسأل على سبب وفاته، كأن ذلك لم يهمني قط. بل إني لم أتساءل حتى عن كلّ اسمه، لكني أعرف أن السجن السياسي يصادر الدماء والقبيلة والألقاب. وظننت أن شق القفص الصدري لابد أن يعني السقطات القلبية أو رئة مصابة بمرض فتاك ما، فأغلب الكهلة الذين يوسمون بشقوق في الصدر غالبا ما تكون أسباب موتهم كتلك.

وشطّفت جسده، وأدلكت له أصابعه وأطرافه، ومشّطت له شعره الشائب، ونظرت في وجهه الأربعيني أو الخمسيني فلست متأكدا، لقد كان خفيفا ونظيفا كزجاج مُلمع لتوه. وشعرت بعصفور في قلبي يطير، لست أدري لماذا، ربما هو الشعور الإنساني المشترك، أو الأعمال البطولية الخفية، أو ربما فقط لأني شعرت بأن هذا الرجل الذي يحمل اسما وحيدا أعرفه منذ الدهر.

على درج في الزاوية بجانب باب الصالة وجدت لائحة بأسماء الجثث في المشرحة، والكل كان بجانبه علامة صح دليلا على التوقيع في شهادة الوفاة لإستلام الجثة. عدا صديقي، كان اسمه فارغا من التصحيح أو القبول. يا إلهي أعلى الإنسان أن يواجه الوحدة حتى بعد الموت؟

ووقّعت هناك بإسمه، أعني أليس بإمكان المرء أن يكون حرا في تقرير دفن شخصه من عدمه؟ واخترت توقيعة من أعماق ذاكرتي، نطت كما تنطّ المفاجأت. وأتممت كل الإجراءات وعدت إليه ووضعت بجانبه أوراق الدفن جاهزة ليستلمها الحانوتي في الصباح، ثم لففت حوله كفن وشددته قدر استطاعتي، وتركت وجهه للهواء، يكفي غمّة السجن حتى أغمّه أنا أيضا في القبر. حاولت فتح فمه بصعوبة جمة، وعندما استطعت فتح مقدار شرخٍ بسيط دسست هناك قطعة سواك كنت أحتفظ به دائما في جيب سترتي. وعندما شعرت أن كل شيء على قدر أتمّه، أغلقت الضوء عليه كنائم، وخرجت. 

عدت لأروقتي. رائحة الديتول والمطهرات العقيمة والدماء والليل والوحدة، غير أن سعادة غريبة اكتست جوانحي. ودندنت مع صرصار الليل وأنا أمسح الأرضيات بشغف كأني أطير. ولمعتها ولمعتها حتى صارت كالمرايا، نظرت للأسفل نحو وجهي، ورحت أنظر للعينين الساكنتين، والحاجبين الكثّين الذي ينقص يسارهما ذيله؛ كأنه مكشوط، والعضلات المشدودة حول فمي المغلق كزنزانة. ومن حاجبي الأيسر حتى أذني اليسرى مرورا خلف رقبتي وصعودا مجددا نحو قذالي يرقد شق قديم كتلك الشقوق التي يكتسبها المرء من المعارك، وبدى لي كخندق مريب مكانه يشي بتاريخ مليء بالأساطير. وقلتُ إن غدا صباحا سينتهي كل شيء. 

 

-النهاية-

أية ش. أبوعقرب

4-12-2016 

 

فكرتان اثنتان على ”الثلاجة رقم (3)

  1. قصة باردة بائسة حد الرجفة ، قصة ورهيبة وبين شطورها من اليأس مايكون ، منه مايجعلك تعيد النظر في نفسك ، في حياتك ، في حالتك ووحدتك وبؤسك … مش قادرة نعبرلك ❤❤❤ أحسنت أحسنت أحسنت

    Liked by 1 person

اترك رداً على إيناس أبوشهيوة إلغاء الرد