صاحب قُبعة الصوف

الحياة غريبة جدا ، قال صاحب قبعة الصوف ، بل خانقة جدا ، صحح بنفس غائم.
نظر في الرجل الممدد أمامه علي السرير المهترىء ، تتصاعد من أنفاسه حرارة تزيد من سخونة الجو ، وكثير من الأحلام الغير ناضجة برغم ذلك ، حاول صاحب قبعة الصوف أن يتخلص من قبعته جاهدا ، لكنها نابتة هناك حول رأسه ، لا فرار ، لعن الرسام اللعين ، ابن المجنونة ، هل يعرف الرسّامون الملاعين أنهم يحبسوننا حينما ينتهون منا في أشكال محددة؟ تسآءل صاحب القبعة الصوف قبل أن يهرش قفا رقبته ، فالشمس قد طلعت من النافدة العالية تطل علي شقة طالب أعزب يقطن في الدور التاسع من العمارة ، كان صاحب قبعة الصوف يقف وقفته الجليلة المعتادة في اللوحة الجدارية المقابلة للنافدة ، ينصهر ببطء ، بفعل الشمس والحرارة الأغسطسية ، أو بفعل الملل.
راقب صاحب قبعة الصوف الشاب الأعزب وهو يتمطط في سريره ، تقلب يمينا نافثا تنهيدة تتبعها غمغمة ، ثم استقر علي وجهه جاعلا من صوت تنفسه سجينا أحمقا يحاول الفرار ولكن بتهور ، وحمق.
أحمق ، قال صاحب قبعة الصوف ، أحمق وكسول ؛ أضاف. بالطبع لا يدري صاحب قبعة الصوف أن الطالب يحصل علي إجازته في أغسطس، والأعزب يحصل علي الجانبين من السرير. لكنه استمر في تمتمة الشتائم علي أية الحال ؛ هذا الشاب الغبي ، الكسول ، الأحمق! لماذا ينام هناك دون عمل ، الشمس أعلنت الصباح ، وأبواق السيارات تنعق بالحياة ، انهض ، قم ، افعل شيئا بحق فوزي القاسم ابن الملعونة ، لو تعلم معنى أن تكون مسطحا هكذا؟ ثنائي البعد هكذا؟ عجوزا يرتدي قبعة صوف! انهض ، قم ، قد لا تشرق الشمس يوما أخرا يا أحمق!!
كان صاحب قبعة الصوف يصرخ بحنق ، لماذا يصرخ بحنق؟ توقف ، تساءل مرددا كلام نفسه لنفسه ، قد لا تشرق الشمس يوما أخرا يا أحمق! بالفعل ، صار صاحب قبعة الصوف هاديء فجأة ، كرسمة جامدة إلى الأبد.
أتى صوت من بعيد جدا ، من بعيد جدا ، من البعد الأخر الغير مرئي للوجود ، وتسلل للاوعي ذاك الفتى الراقد علي فِيه ، تمثل له كهيئة حلم غريب مزعج ، كان هناك جدارية في الحائط المقابل لسريره ونافذته ، من نقطة ما من الجدارية المبروزة خرجت يدٌ ما ، ثم يد أخرى ، وهكذا تلاها قدمان وجدع ، فصدرٌ ملتئم حول محوره ، فرأس ذو قبعة صوف ، صار أمامه عجوزا يتكيء علي دهشته ، يرتدى زيا ليبيا كذاك الزي الذي يراه في التراث الشعبي ، بقبعته الدائرية الصوف السوداء. عدل العجوز قبعته لكنه لم يرفعها من على رأسه رغم أنه بدا متضايقا منها ، كان الحلم مزعجا وغرائبيا للدرجة التي لم يتساءل فيها الفتى عن استحالية هكذا واقعة ، حتى أنه لم يشهق عندما اتجه العجوز إلى النافذة المطلة علي شارع زاوية الدهماني وقفز منها إلى ما شابه حدا من حدود السماء. قفز إليها كطفل يتخطى حجارة صغيرة ، كطفل يعلب لأول مرة. لم يشهق أو ينفعل ، بدا الأمر منطقا ، اتجه هو الأخر إلى الرسمة الحائطية التي لم تعد رسمة بشخصية محددة ، مجرد منظر لحارة طرابلسية قديمة ، بلا أحد ، مد يده ، أكله الحائط ، صار بلا أبعاد.
نهض واقفا علي قدميه ، ينفض شيئا ما تعلق به ، لكن لم يكن هناك شيء يتلعق به ، سوى خيط لعاب يتعلق من زاوية فمة نحو ذقنه بتشبث ، كان صوت دقات قلبه يسبق صوت تنفسه الغليظ ، فيستقر قبله في أذنه. بلاب بلوب.  بلاب بلوب، احتج قلبه. فجلس علي حاشية السرير.
تساءل الفتى محدقا في الرسم الجداري المبروز أمامه ، ألم يكن هناك شخصية ما في الصورة؟ تذكر ؛ أهداه صديقه الرسام مرة هذه اللوحة التراثية في أول معرض له ، وهذا اسم صديقه هناك ، فوزي القاسم في أسفل اليمين ، وهذه الحارة التي يفترض أنها قديمة ، لكنه يتذكر تماما أن شخصا ما كان يقف هناك ، عجوزا ربما ، لكن لا أتذكر حقا؟ قال بصوت هامس محاولا استجلاب مزيد من التذكر ، اختلطت أحداث الحلم بالحقيقة الحاضرة ، نعم! عجوز بقبعة صوف ووجه ممتعض! صاح هذه المرة ، وشهق أيضا.
– النهاية –
أية ش. أبوعقرب
5-5-2016

 

فكرتان اثنتان على ”صاحب قُبعة الصوف

اترك رداً على fantasiesandmatches إلغاء الرد